تشير الشواهد الكثيرة إلى أن حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط ترددوا في تقديم دعم كامل لموقف الولايات المتحدة تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، فما هي صور هذا التردد؟ ولماذا اتخذ حلفاء واشنطن موقفها غير المتوقع؟
تركيا
أدانت تركيا بشكل واضح الغزو الروسي لأوكرانيا، وأعلنت بعد تردد استمر لأيام أن "حالة الحرب" تنطبق على الصراع بين البلدين، واستخدمت بناء على ذلك اتفاقية "مونترو" التي تمنع السفن الحربية من عبور مضائق البحر الأسود في حالة الحرب.
ولكن تركيا، برغم ذلك، لم تنسجم تماما مع الموقف الأمريكي من الحرب، ولم تفرض عقوبات على موسكو كما فعلت الدول الغربية، وقالت إن تطبيق اتفاقية "مونترو" سيطبق على جميع الأطراف "دون السماح بازدواجية المعايير" بحسب تعبير الرئيس أردوغان، وأكدت أنها لن "تتخلى عن روسيا وأوكرانيا" وأنها ستسعى للوساطة للوصول لحل سلمي، وقامت بالفعل باستضافة جلسات حوار بين الطرفين.
ويبدو من خلال التصريحات الروسية وموافقتها على حضور المفاوضات في تركيا أنها تقبل الموقف التركي "المتوازن"، وقد عبر عن ذلك بوضوح سفير موسكو في أنقرة الذي قال إن بلاده تتفهم تطبيق أنقرة لاتفاقية "مونترو".
ثمة عوامل عديدة أثرت على الموقف التركي غير المنسجم تماما مع واشنطن والناتو. أول هذه العوامل هو تشابك العلاقات التركية الروسية خلال السنوات الماضية. عقدت أنقرة وموسكو عدة اتفاقيات لإدارة الوضع في شمال سوريا، ومن الواضح أن الهدوء النسبي في إدلب وشمال غرب سوريا عموما هو نتيجة لهذه الاتفاقيات، ولا يمكن لتركيا أن تضحي بحالة الهدوء في الأراضي السورية على حدودها من خلال إغضاب روسيا.
يبدو التشابك في العلاقات التركية الروسية واضحا أيضا في ليبيا، حيث دعمت أنقرة طرابلس فيما يعتبر خليفة حفتر حليفا لروسيا في شرق ليبيا. وعلى الرغم من وقوف البلدين على طرفي نقيض في الصراع الليبي إلا أن أنقرة لا تريد إنهاء المسار السياسي المتعثر أصلا في البلاد، والذي لا يمكن استمراره بدون موافقة قوى طرابلس من جهة وحلفاء موسكو في الشرق والجنوب من جهة أخرى.
يلعب العامل الاقتصادي دورا محوريا في الموقف التركي من الصراع في أوكرانيا، خصوصا مع ارتفاع التضخم وعدم استقرار سعر الليرة. بلغ التبادل التجاري بين البلدين حوالي 20 مليار دولار عام 2020، فيما يطمح الطرفان للوصول به إلى 100 مليار دولار سنويا. يضاف إلى ذلك أن حوالي 6 ملايين سائح روسي يزورون تركيا سنويا، بما يعنيه ذلك من دخل كبير للميزانية التركية. لا يمكن لتركيا أن تتنازل عن هذه العلاقة الاقتصادية، خصوصا أنها اختبرت التأثير الهائل على الاقتصاد التركي جراء توتر العلاقات بين البلدين في أعقاب إسقاط الطائرة الروسية من قبل طيارة تركية عام 2015.
أما العامل الأهم في تحديد الموقف التركي تجاه الصراع في أوكرانيا وامتناع أنقرة عن التماهي تماما مع الموقف الأمريكي فهو العلاقة الملتبسة بين تركيا من جهة والناتو وواشنطن والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى. لم تقف واشنطن وحلفاؤها في الناتو وأوروبا موقفا جديا مع تركيا أثناء خلافها الشديد مع روسيا عام 2015 وتركت أنقرة تصارع الدب الروسي وحيدة وكأنها ليست عضوا في الناتو، وعندما اضطرت لشراء منظومة الدفاع الروسية "إس 400" تعرضت للعقوبات الأمريكية، وفي نفس الوقت تشهد العلاقات التركية مع أوروبا توترا وارتباكا مستمرا منذ سنوات. ويضاف إلى ذلك ما يتوقعه خبراء استراتيجيون من ظهور دور روسي صيني أكبر في العالم بعد انتهاء الأزمة الحالية. يبدو أن هذه العوامل دفعت صانع القرار التركي لعدم التخلي عن علاقاتها مع روسيا في وقت لم تتمكن فيه من الحصول على مزايا وعلاقات خاصة مع الغرب، وبانتظار نظام دولي محتمل متعدد الأقطاب.
السعودية والإمارات
ثمة شواهد كثيرة على عدم تماهي الموقفين السعودي والإماراتي مع أمريكا تجاه الصراع في أوكرانيا. امتنعت الإمارات، على سبيل المثال، عن التصويت على قرار لمجلس الأمن يدين الغزو الروسي في 25 فبراير الماضي، فيما عادت وصوتت لصالح قرار مماثل بعد أيام ولكن في اجتماع للجمعية العامة للأمم المتحدة وهو قرار رمزي لا قيمة عملية له.
الموقف الإماراتي المتردد تجاه دعم واشنطن برز أيضا في البيان الذي صدر بعد اتصال هاتفي بين الرئيس الروسي بوتين وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، حيث أشارت بعض النسخ المنشورة للبيان لدعم الإمارات لحق روسيا بالدفاع عن نفسها، وهو ما سبب غضبا أمريكيا حسب تقرير لموقع "انترسيبت" الأمريكي.
على الجانب السعودي لم تظهر الرياض مواقف واضحة ضد روسيا في الأزمة. وامتنعت الرياض عن التعهد بزيادة كميات انتاجها من البترول كما تريد واشنطن للحد من ارتفاع الأسعار ولتعويض واردات أوروبا من الطاقة الروسية. اتخذت الإمارات موقفا مماثلا، وعلى الرغم من إعلان سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة رغبة بلاده بزيادة إنتاجها من البترول إلا أن وزير الطاقة نفى ذلك بعد ساعات من بيان العتيبة وأكد التزام بلاده بالتنسيق مع أوبك+ بخصوص كميات الإنتاج.
يضاف إلى هذه الشواهد ما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال عن رفض ولي العهد السعودي ونظيره الإماراتي استقبال مكالمات هاتفية من بايدن للنقاش حول إمدادات الطاقة، وهو ما نفته الناطقة باسم البيت الأبيض أكثر من مرة، ولكنه يبقى رغم النفي مؤشرا مهما على حقيقة الموقف الإماراتي السعودي.
ولتفسير الموقف الإماراتي السعودية، فإن العامل الأول الذي لعب دورا في تشكيله هو التلكؤ الأمريكي في دعم البلدين في الحرب الدامية على اليمن، حيث امتنعت إدارة بايدن عن تقديم الدعم السياسي والعسكري الكامل الذي كانت تقدمه إدارة ترامب لهذه الحرب.
من جهة أخرى، فإن اقتراب واشنطن وحلفائها من توقيع اتفاق نووي جديد مع طهران يمثل قلقا للدولتين الخليجيتين، لأنه سيضمن إعادة طهران للمنظومة الدولية، وسيؤدي لرفع جزئي للعقوبات التي تعاني منها منذ سنوات، وسيساعدها في التعافي الاقتصادي.
ويبدو أن توتر العلاقات بين بايدن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان شخصيا يلعب دورا هاما في موقف الرياض، إذ يتعرض ابن سلمان عمليا لمقاطعة من الرئيس الأمريكي، على خلفية اتهامه بالمسؤولية عن جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في العام 2018.
ولكن العامل الأهم، برأينا، في صياغة الموقف السعودي والإماراتي هو إدراك الدولتين أن العالم قد يكون مقبلا على شكل جديد من العلاقات الدولية يقوم على أساس "تعدد الأقطاب" بعد عالم "أحادي القطبية" إلى حد كبير. يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة بدأت تعيد تشكيل طبيعة دورها في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2010 في عهد إدارة أوباما، حيث أصبح الانغماس الأمريكي المباشر أقل مما كان عليه سابقا في ظل اطمئنان واشنطن على إمدادات الطاقة وتفوق الاحتلال العسكري على كل دول المنطقة إضافة إلى تبعات الهزيمة الأمريكية السياسية في العراق بعد احتلالها.
وإذا كانت تركيا ودول الخليج فعلا اتخذت مواقفها تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا بناء على قراءة استراتيجية لطبيعة النظام الدولي الذي قد يتشكل في السنوات القادمة، فإن هذا يعتبر تطورا واضحا في سياسات الشرق الأوسط قد يكون له ما بعده، بغض النظر عن الموقف من السياسات الداخلية والخارجية الأخرى لهذه الدول.